walid.d81@gmail.com

صورتي
البسباس, ولاية الطارف, Algeria
أفكار تسعى الى إقامت دولة عربية ديمقراطية متقدمة وفقا للمرجعية الإسلامية

الأحد، 2 يناير 2011

العلمانية .......والنظام السياسي الإسلامي:

                 وفدت إلى العالم الإسلامي مع الحملة الاستعمارية في العصر الحديث مجموعة من المفاهيم والمصطلحات نشأت في المجتمعات الغربية كالعلمانية والديمقراطية والتحديث والتصنيع والحداثة .....ومن أخطر هذه المفاهيم هو مفهوم العلمانية الذي يعبر على طغيان الإنسان الأوربي الذي تجرأ على إنكار الدين والغيب عموما .
 ظهرت العلمانية كمصطلح تتداوله الألسنة في بدايات الثورة الفرنسية 1779م واكتملت بنيته النظرية في أواخر القرن 19مـ  ،ولكن مضمون العلمانية التي تعني احتقار الدين وإبعاده عن الحياة السياسية والاجتماعية  قديم في المجتمع الأوربي ربما يرجع إلى بدايات النهضة الأوربية 15م  و 16 م
والعلمانية هي ترجمة للكلمة الانجليزية Secularism وهي نسبة إلى العالم أي العالمانية وتلفظ تسهيلا العلمانية وهذا موجود في اللغة العربية مثلا كلمة فاطمة نسهلها فنقول فطمة ، والعالمانية تعني اللاّ دينية أو اللاّ غيبية أي عدم احتياج العالم إلى غيب وبإمكانية أن يسير لوحده فالإنسان لم يعد بحاجة إلى الدين لفهم العالم أو تفسيره أو حتى تغييره .
 وخطأ شائع عند كثير من الكتاب والصحافيين الذين يقزّمون مفهوم العلمانية ويعتبرونه فصل الدين عن الدولة وهذا في الحقيقة إنما هو جزء من تجليات العلمانية على الحياة الإنسانية .
         فلتعريف أيّ مصطلح أو مفهوم فلسفي لابداّ من الرجوع إلى التركيبة الزماكانية التي ظهر فيها هذا المفهوم، فإذا أردنا أن نعرف مصطلح العلمانية لابداّ أن نرجع إلى تاريخ المجتمع الأوربي الذي أنتج هذا المفهوم وأن  نجيب على سؤال :لماذا فصل المجتمع الأوربي دينه عن الدولة.... ففي تاريخ المجتمع الأوربي نجد أن الدين( المسيحي) فصل عن السياسة في بداية الأمر وقد ظهر هذا في كتابات ميكيافيلي مثلا الذي ألف كتابا أصبح يعتبر واحد من المراجع الأساسية في الفكر السياسي الغربي وهو كتاب [الأمير] الذي أعطى فيه نصائح وتوجيهات إلى الحاكم السياسي تعتمد في الأساس على المصلحة وقد أبعد ميكيافيلي الدين عن السياسة معتبرا أن الغاية تبرر الوسيلة... ثم فصل الدين في المجتمعات الأوربية عن الاقتصاد فظهر الفكر الرأسمالي المجرد عن كل المبادئ الأخلاقية والدينية وكتاب [ثروة الأمم] لآدم سميث يعبر عن هذه العلمانية الاقتصادية فقد حيّد أدم سميث وأبعد الدين عن الاقتصاد معتبر أن المصلحة هي الهدف الوحيد في سبيل تحقيق التقدم و الازدهار... ثم أبعد الدين بعد ذلك عن الأدب والفن وعن كل الحياة الاجتماعية في الدول الأوربية  حتى أصبح الإنسان الأوربي لا يتذكر الدين إلا يوم الأحد أو في الأعياد وكثير من الأحيان هو لا يتذكره أصلا لأنه لا يعمل بأوامر التي أمره بها.
         ونحن سنحاول في هذه الأسطر أن نقدم نظرة معمقة للعلمانية والفكر العلماني وسنجيب عن ثلاث أسئلة أساسية للإحاطة بكل جوانب هذا المفهوم     ما هي العلمانية ؟ وكيف نشأت في المجتمع الأوربي ؟ وهل يمكن أن تعيش وتنمو في المجتمعات الإسلامية؟
بدأ الحديث عن العلمانية العربية في بدايات القرن 20 م أين بدأت تظهر مجموعة من الرؤى الفكرية والبرامج الحضارية للنهوض بالمجتمعات العربية وإخراجها من التبعية والتخلف والفقر .وانقسم المفكرون العرب والمسلمون حيال مفهوم العلمانية بين مؤيد لها وبين مناهض منتقد لها ،فسلامة موسى وطه حسين في أول كتاباته يعبر عن مدى تأييده للعلمانية والذي أحدث ضجة على الساحة الفكرية العربية هي بدايات القرن  20 م.
         بدأ طه حسين كتاباته الأولى متأثرا بالفكر الغربي العلماني فألف كتابه (في الشعر الجاهلي) الذي أراد من خلاله الطعن في الدين الإسلامي وذلك من خلال إنكاره لوجود الشعر الجاهلي زاعما أن المسلمين هم الذين كتبوه بعد نزول القرآن الكريم  ليثبتوا بلاغة وإعجاز القرآن الكريم .
         وقد انتهج طه حسين  طريق انتقاد الدين من أصوله لأنه كان يحاكي الأدباء الأوروبيين الذين بنوا شهرتهم وشعبيتهم على انتقاد الدين المسيحي والسخرية منه  كفولتير الذي وجه انتقادات كثيرة للفكر الديني والمسيحي .
ولكن هذه الفكرة التي طرحها طه حسين قد دحضها العلماء في عصره ثم أثبت علم الآثار والتاريخ وجود بقايا آثار في الجزيرة العربية ّ تثبيت وجود الشعر الجاهلي.
ثمّ كتب في ثلاثينات القرن الماضي كتابه مستقبل الثقافة في مصر والذي أراد من خلاله أن يربط فكرة التطور والتقدم بإستراد الفكر والفلسفة الأوربية بحلوها ومرها أي علمنة المجتمع والدولة المصرية .
         وقد تراجع طه حسين في أواخر كتاباته عن معظم هذه الأفكار وكتب كتبا عدة عن التاريخ والفكر الإسلامي كـ : -على هامش السيرة - والفتنة الكبرى-  ونفس الشيء بالنسبة لكتابات سلامه موسى الذي لو وصل إلى السلطة وتولى زمام الحكم في البلدان العربية لجعلها تنتهج العلمانية رغما عنها كما فعل مصطفى كمال أتاتورك في تركيا الذي حاول أن يجتث الإسلام من عقل ووجدان الشعب التركي.
         من الملفت للنظر في ذلك العصر أن كل الكتابات التي يسومنها بالتنويرية وهي في الحقيقة ظلامية أرادت أن تنتقد الفكر والتراث الديني الإسلامي مقلدة بذلك السبيل الذي انتهجه المفكرون التنويريون في المجتمع الأوربي ،لكن كل هذه الكتابات لم تستطع أن تثبت أي ثغرة في الدين الإسلامي في حين اثبت ذلك مفكرو التنوير في الدين المسيحي (المحرف).
         أما الكتابات الإسلامية التي انتقدت العلمانية والفكر  اللا ديني نجد كتابات الأستاذ أنور الجندي الذي وضع كتابا تنبأ فيه بسقوط العلمانية معتبرا أنها مرحلة من تاريخ الفكر الأوربي ستعود بعدها المجتمعات الأوروبية إلى الدين من جديد .
         وكتابات سيد قطب التي تنتقد الحضارة الغربية من أصولها حيث اعتبر سيد قطب أن الإسلام هو الحضارة وما عداه جاهلية .
((هذا الدين )) ((مستقبل هذا الدين)) ((الإسلام مشكلة الحضارة)) هي في الحقيقة ع  دراسات فكرية معمقة حاول فيها سيد قطب تبيين الفرقات الموجودة بين الدين الإسلامي وتاريخ الشعوب الإسلامية وبين الدين المسيحي وبين تاريخ الشعوب الأوروبية معتبرا أن العلمانية هي انحراف للفكر الإنساني ولا يمكن لها أن تصلح في البلدان العربية و يقول سيد أن الإنسانية ستعود إلى الإسلام بعد أن تجرب كل الفلسفات والنظريات الوضعية التي سيثبت الزمن فشلها .
         أما الدراسات المعاصرة عن العلمانية فنجد  كتابات الأستاذ عبد الوهاب المسيري رائدة في هذا المجال ،فربما يكون هو الكاتب الوحيد الذي استطاع أن يقدم نظرة تحليلية تاريخية عن العلمانية في المجتمعات الغربية.
         حيث اعتبر عبد الوهاب المسيري أن هناك علمانيتان :علمانية جزئية وأخرى شاملة .
         أما العلمانية الجزئية هي تلك الفلسفة التي سادت القرن 19 م والتي كانت تقضى بإبعاد الدين عن الدولة وإقصائه عن الحياة السياسية وقد بدأت تتجسدت هذه الفكرة في الثورة الفرنسية سنة 1779 م والتي كان شعارها   " أشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس" .
         لكن الدولة في هذا الوقت لم تكن مسيطرة على كامل مجالات                                                                                                                                                                                                                                              الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية كما هي عليه الآن ،فالدولة في البلدان الأوروبية في القرن 19 م لم تكن مسيطرة على التربية والتعليم والفن والثقافة والاقتصاد وإنما كانت سلطتها محدودة في شؤون السياسة والعسكرية وبالتالي فإن الدين قد فصل عن بعض شؤون الدولة وليس عن الدولة كلها ،أما الجوانب الأخرى من الحياة فلم تمسها العلمانية بشيء أي أن الدين لم يفصل عن الحياة الفردية وإنما بقي الدين فاعل أساسي في الحياة الفردية في أوروبا :
         أما العلمانية الشاملة فهي تلك التي ظهرت بعد التطور الرهيب الذي حدث في القرن 20  م حيث أصبحت الدولة الحديثة تسيطر علي كامل مخالب الحياة العامة والخاصة فالخطوط العريضة للتعليم مثلا تضعها الدولة والسياسة الاقتصادية حتى الفن و الثقافة أصبحت الدولة الحديثة لها يدّ فيه فأصبح بإمكان الدولة أن تصل الى الأصول الفكرية و العقائدية لشعبها من خلال الإعلام و التعليم فتبرمجه وفق ما تشاء.
         و بالتالي فالدين في هذه المرحلة قد فصل عن كل جوانب الحياة فالاقتصاد لا أخلاق تحكمه والسوق هو حلبة الصراع بين المنتج و المستهلك و المضارب و البائع و المصلحة الفردية هي القيمة الأساسية و أصبح الفن لا رسالة له فهو يسعى إلى الربح المادي دائما على حساب جميع المبادئ الدينية و الأخلاقية .
         فالعلمانية الشاملة حسب رأي الأستاذ المسيري هي التي نراها الآن في الغرب وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية حيث أصبحت الحياة فيها عبارة عن مكان أقصيت منه كل العواطف و المبادئ .
         و هذه العلمانية الشاملة حسب رأي الأستاذ هي مرحلة من مراحل تطور العلمانية الجزئية التي كانت في الغرب في القرن 19 م.
أما عن مدى موائمتها للتطبيق في دول العالم العربي و الإسلامي فقد اعتبر الأستاذ المسيري أن العلمانية الجزئية يمكن أن تطبق في العالم الإسلامي فيفصل الدين عن السياسة وعن بعض جوانب الاقتصاد على حد تعبيره ،أما العلمانية الشاملة فلا يمكن أن نطبقها في بلداننا لأنها حسب رأيه مهدمة للأخلاق و للحياة الإنسانية عموما فهي تجعل من الإنسان مجرد مادة و آلة تسير وفق قوانين مادية و بيولوجية .
على عكس العلمانية الجزئية التي يمكن أن تتعايش معها مجتمعنا فهو يقول دائما ((أنا علماني جزئي)).
         في الحقيقة إن نظرة الأستاذ المسيري لمفهوم العلمانية هي نظرة تحليلية دقيقة لنشأت هذا المفهوم في المجتمع الغربي ، ولكنها لا تعطينا جواب مقنع عن جوهر العلمانية - لماذا ظهرت العلمانية في المجتمع الغربي ؟ ولماذا أبعد الدين في أوربا عن الحكم ؟ بعد حوالي 18 قرنا من تواجده في المجتمعات الأوربية .
         فحسب رأيي إن هذا هو جوهر موضوع العلمانية فإذا استطعنا أن نجيب على هذا السؤال لاستطعنا أن نعرف ما إذا كانت العلمانية صالحة للعيش والنمو في المجتمع الإسلامي أم أنها نبتة في غير تربتها وفي غير إقليمها المناخي.
كيف ظهرت العلمانية في الفكر الغربي ؟
         لمعرفة مفهوم العلمانية لابدّ لنا أن نلقي إطلالة سريعة على تاريخ الإنسانية والمجتمع الأوربي بالذات لمعرفة الشيء الذي حدث وأدى إلى تبني الإنسان الأوربي لهذا المفهوم واقتناعه به . 
         يقول لنا علماء الأنثروبولوجيا وعلماء التاريخ أن الحياة الإنسانية ظهرت على الأرض منذ حوالي 200 ألف سنة وهناك من يرجعها إلى 4 ملايين سنة ولكن الراجح عند العلماء هو 200 ألف سنة لأن الآثار التي وجدت وترجع إلى 4 ملايين سنة هي أثار لحيوان شبيه بالإنسان وليس للإنسان العادي هذا ما يقوله العلم .
         فالإنسان موجود على الأرض منذ 200 ألف يعيش حياة بدائية بسيطة وكان تطور الحياة الإنسانية بطيء جدا إلى غاية 500 سنة الأخيرة حيث حدث منعرج كبير في الحياة الإنسانية وفي الفكر الإنساني  كانت نتيجته ما نحن عليه الآن من التقدم والتكنولوجيا ، فاستطاع الانسان أن يغزوا الفضاء وأن يغور في الأرض ويستخرج القوانين التي تحكم حركة الكون.
         والسؤال المطروح هنا هو ما الذي أحدث هذه الطفرة في مسيرة الانسان على الأرضّ ؟ ولماذا لم تحث منذ 100 ألف سنة أو 50 سنة مثلا .
         بالنسبة للتفسيرات التي طرحت بشأن هذه الطفرة والتغيير الرهيب في الحياة الإنسانية فهناك من يربط بين هذه الطفرة وبين تقارب وسائل الاتصال بين الشعوب على الأرض وبين الأجيال عبر الزمن من خلال اختراع الطباعة وظهور الصحف وإلى غير ذلك من وسائل نقل المعلومات ،فأصحاب هذا الرأي يقولون أن تطور وسائل الاتصال بين الشعوب والأجيال أدى إلى سرعة حركة تقدم الحياة الإنسانية فحدث في 500 عام ما لم يحدث في آلاف السنين .
         أن أصحاب هذا الرأي لم يعطوا لنا سبب مقنعا يفسر وقوع هذا التغيير في الفكر الإنساني وفي المجتمع الأوربي بالذات ،فوسائل الاتصال تقرب المسافة بين الشعوب وتسهل انتقال الأفكار والمعلومات ،لكن الذي حدث هو تغيير نظرة وتصور الانسان للحياة وللكون وللنفس الإنسانية.
         وهناك من يقول أن التاريخ الإنساني تداول بين حضارات وشعوب والحضارة الأوربية التي ابتدءا في القرن 16 م ما هي إلا مرحلة من مراحل التاريخ الإنساني وأن ما حدث في ألـ 500 سنة الأخيرة من تطور تكنولوجي وتقني رهيب هو نتاج تطور تاريخي ونتاج الحضارات التي سبقت الحضارة الأوربية.
         قولهم أن الحضارة الأوربية اعتمدت على إرث الحضارات التي سبقتها هي حقيقة تاريخية لا جدال فيها ،بينما يبقى السؤال مطروح في أذهاننا .
ما الذي أحدث هذا المنعرج في الفكر الإنساني؟
         لو نظرنا نظرة فوقية على مسار التاريخ الإنساني نجد أن هناك حدثان مهمان حدثا قبل انطلاق الحضارة الأوربية التي نتج عنها مفهوم العلمانية كتصور للحياة وللكون.
         الحدث الأول هو انقطاع وحي السماء إلى البشرية بنزول الرسالة الخاتمة على سيدنا محمد r ،فبعد أن كانت البشرية تسير وفق منهج السماء طيلة آلاف السنين عن طريق النبوة التي أكد القرآن الكريم في كثير من آياته أن النبوة لم تنقطع طوال تاريخ البشرية  فلا توجد أمة لم يرسل إليها نبي ليهديها ويبين لها هدف وغاية وجودها.
يقول تعالى: ((وإن من أمة إلا خلا فيها نذير))  
ويقول تعالى:((وما كنا معذبين حتى نبعث رسول))
         لكن بعد بعثة سيدنا محمد برسالة الإسلام ،انقطع وحي السماء للأرض وهذا حدث مهم في تاريخ الإنسانية.
  فعلاقة وحي السماء والمنعرج التاريخي التي جدت للإنسانية ابتداء من بدايات النهضة الأوروبية قد غفل عنه كثير من المفكرين وهذا ما سنبينه الآن .
         ان القرءان الكريم قد أحدث تغييرا جذريا في فكر الإنسان سواء من ناحية تصور الإنسان عن للكون ولنفسه و للخالق سبحانه و تعالى .
فبالنسبة لنظرة الانسان للكون فقد أكدّ القرءان الكريم على أن الانسان هو السيد لهذا الكون وأن كل ما في هذا الكون مسخر و مذلل له.
يقول تعالى ((وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض منه))
 كما أمر القرءان الانسان بالسير والبحث في الكون واستخلاص القوانين التي تحكمه .
يقول تعالى(( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق))
 ويقول أيضا((فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقي إليه النشور ))
 ويقول ((والشمس والقمر بحسبان))
ويقول(( إن كل شيء خلقناه بقدر))
فما إن أدرك العقل المسلم أن هذا الكون تحكمه قوانين سعي العالم والباحث المسلم في الحضارة الإسلامية إلى الوصول إلى هذه القوانين والحقائق الكونية ثم انتقلت هذه الفكرة إلى المجتمع الأوروبي .
         لكن هناك من يقول أن القرءان دعا حقا إلى البحث في الأرض لكن الهدف ليس الوصول إلى القوانين والعلل التي تحكم الظواهر الطبيعية بل لهدف آخر هو الإيمان والتوحيد وهذه في الحقيقة ليست مسبة وإنما هي ميزة الإسلام الذي يربط دائما بين تطوير الحياة الإنسانية والإيمان و الحياة الآخرة المكملة لهذه الحياة على عكس الحضارة الغربية التي تعتبر أن الحياة الدنيا هي الهدف الأول والأخير.
         أما بالنسبة لنظرة الانسان لنفسه فقد غير القرءان الكريم تصور الانسان لمكانته في هذا الكون فبعدما كان ينظر إلى نفسه نظرة دونية ويعتقد  أن في الكون من هو أكرم منه ويملك سلطة عليه ,جاء القرءان وقال للإنسان إنّك خليفة الله في الكون و سيّد لهذا الكون ولا سلطة لمخلوق عليك وأن كل ما في الكون مسخر لك وفي نفس الوقت إنّك عبد لله الواحد الأحد .
قال تعالى:((وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ,قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني اعلم ما لا تعلمون))
 ويقول أيضا: ((ولقد كرمنا بني ادم وحملناهم في البر والبحر وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا))
ويقول أيضا ((إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا))
         فكل هذه الآيات وغيرها كثير في كتاب الله  غيرت تصور الإنسان لنفسه ولهدف وجوده على هذه الأرض فأصبح ينظر إلى نفسه نظرة مسئول على هذه الأرض .بعدما كانت الفلسفات والديانات القديمة المحرفة تقلل من شأن الإنسان ودوره على هذه المعمورة في حين قدس أشياء هي في الأساس مسخرة له كتقديس النار عند المجوس أو تقديس بعض الظواهر الطبيعية  أو الأصنام ....
أما تصور الإنسان عن الإله الخالق فبعدما كانت الديانات المحرفة والفلسفات القديمة تنظر إلى الإله  نظرة شرك أو تعدد فاعتبرت المسيحية مثلا[المحرفة] أن الله ثالث ثلاثة وهذه صفة النقص بالنسبة للإله سبحانه وتعالى ,كما كانت تنظر الفلسفة الإلهية اليونانية نظرة تقليل وانتقاص من عظمة الله جل وعلا ثم جاء الإسلام ليقدم نظرة مفصلة ودقيقة عن الله سبحانه وتعالى في عقيدة التوحيد التي تؤكد أنه ليس في الكون إلا اله واحد ليس كمثله شيء  ((ليس كمثله شيء وهو السميع البصير)) ...هذه العقيدة التي ما إن دخلت قلب بشر واقتنع بها إلا أعطته حركة وطاقة لا مثيل لها.
 هذا بالنسبة للحدث الأول من الحدثين الذين حدثا قبل التغيير الكبير الذي حدث في مسار الفكر الإنساني ، والذي  ربما استبعده كثير من المحللين والمفكرين وقللوا من مدى علاقته بانطلاق الحضارة الأوربية في القرن 16م .
أما الحدث الثاني الذي كان سببا في ميلاد الحضارة الأوروبية هو حركة الإصلاح الديني التي حدثت في القرن 15-16م بزعامة مارتن لوثر (1483-1546) فانشأ المذهب البروتستانتي الذي انشق عن الكاثوليكية  فأسقط لوثر كل الخرافات التي كانت سائدة في المذهب الكاثوليكي ، فمن الإصلاحات التي جاء بها لوثر:
s       أنه أسقط الخطيئة الأصلية بتوبة آدم عليه السلام.
s       نفى كلّ وساطة بين الله والإنسان.
s       تأكيده على أن الإيمان هو الرابطة الوحيدة بين الله والمؤمنين .
s       اعتبر لوثر أن الكنيسة نظام كهنوتي اجتماعي متسلط على الشعوب الأوربية يجب القضاء عليه .
هذه هي الإصلاحات الرئيسية التي قام بها مارتن لوثر في أوربا والتي حررت العقل الأوربي من كل القيود التي كانت مفروضة عنه فانطلق يسعى في الأرض ويجوب الآفاق بكل حرية وطلاقة .
لكن في الحقيقة هذه الحركة الإصلاحية لم تحدث في أوربا فجأة و إنما بعد حدوث مجموعة من التغيرات والتفاعلات في المجتمع الأوربي ابتدأت بظهور حركة في الجامعات الأوربية تسمى بالرشدية اللاتينية منتسبة فكريا إلى ابن رشد العالم المسلم...ثم ظهرت حركة الإنسانيين وهم فئة ناشئة من المثقفين في القرن 14 م كانوا يعملون خارج نظام الكنيسة وضدها وكانت هذه الحركة متأثرة أشد التأثر بترجمات القرءان الكريم إلى اللغات الأوروبية فكان رجال هذه الحركة لا يخفون مدى انبهارهم وتأثرهم بالإسلام وبالقرءان الكريم فكانوا كثيرا ما يحتجون بآياته لتعزيز موقفهم ونشر ثقافة جديدة تعتبر أن الإنسان غاية في حدّ ذاته ، وتعلي من شأنه كفرد حرّ لا يحتاج في تعامله الديني (عقيدة وسلوكا) إلى وسيط آخر (الكنيسة) .
         لقد أسهمت ترجمة معاني القرءان الكريم إلى اللغات الأوربية في التغيير الذي عرفته نظرة الثقافة الأوربية إلى الإنسان وحركة الإنسانيين هي أكبر دليل على مدى تأثر رجال الفكر في أوربا بالقران الكريم .
حيث يقول المؤرخون إن أول ترجمة لمعاني القران الكريم إلى اللغة اللاتينية في سنة 1143م,وتمت بإيعاز و إشراف رئيس دير-كلوني-في جنوب فرنسا الراهب (بطرس المبجل),وقد منعت هذه الترجمة من الطبع والوصول  للجماهير إلى غاية سنة 1543م,أين طبعت في سويسرا وكانت تتضمن مقدمة لمارتن لوثر ,ثم ترجمت هذه النسخة إلى الفرنسية 1647م,ثم إلى الأنجليزية و الهولندية و الألمانية....ويقول المؤرخون أن هذه الترجمات لاقت رواجا كبيرا في المجتمعات الأوربية.
ربما تكون هذه الترجمات ليست دقيقة وقد تكون بعيدة كثيرا عن المعنى الحقيقي  للقرآن الكريم ,ولكننا هنا نقصد تلك الأيات القرآنية التي إذا ما فهمها الإنسان و أقتنع بها أحدثت ثورة وتغير جذري في نظرته وتصوره للحياة و للكون من قبيل قوله تعالى:((وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة..)).
وقوله:((..ولقد كرمنا بني أدم وحملناهم في البر و البحر وفضلناهم على كثير مما خلقنا تفضيلا)).
وقوله:((وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه)).
فعرف الإنسان الأوربي وتعلم أنه سيد للكون وأن الكون مسخر له بعد جهل طويل بهذه الحقائق.
         لقد كانت حركة الإصلاح الديني لمارتن لوثر نتيجة لهذا التغيير الجذري الذي حدث في أوربا  إبتداءا من القرن الثاني عشر ميلادي بعد دخول الثقافة الإسلامية إلى أوربا عن طريق الترجمة.
         فلو تأملنا في معظم الإصلاحات التي قام بها لوثر لوجدناها في أصولها إسلامية لا نحتاج إلى دليل تاريخي لنثبت مدى تأثر لوثر بالثقافة الإسلامية و بالقرآن الكريم بالخصوص ...
فمسألة  الوساطة بين الخالق والمخلوق هي أصل من أصول الدين الإسلامي (( وإذا سالك عبادي عني فاني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعاني...))
         ونفس الشيء بالنسبة للخطيئة الأصلية لآدم عليه السلام فنجد القرءان الكريم أكد في عدة آيات أن آدم تاب إلى الله عز وجل وتاب الله عليه حيث يقول تعالى ((فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه.......))
وبالتالي فحركة الإصلاح الديني التي حدثت في أوربا وكانت سببا رئيسيا لميلاد الحضارة الأوربية كانت نتيجة تأثر أوربا بالإسلام وبالقرءان الكريم وهذه هي الحقيقة التي لا ينكرها العادلين من المفكرين في أوربا .
         قد يقول قائل إذا كانت الرسالة الخاتمة (الإسلام) ركيزة أساسية من ركائز انطلاقة الحضارة الأوربية في القرن 16م فلماذا لم تنطلق هذه الحضارة في العالم الإسلامي الذي نزلت فيه هذه الرسالة؟
         في الحقيقة إن الإسلام أحدث تغييرا جذريا في عقلية المسلم والإنسان عموما وأدى ذلك إلى انطلاق الحضارة الإسلامية التي يعتبرها علماء الغرب أنفسهم أنها وضعت القواعد الأساسية التي اعتمد عليها العقل الأوربي في بناء حضارته .
         إن فضل الحضارة الإسلامية على الحضارة الأوربية كفضل الأستاذ على تلميذه فمعظم مجالات إبداع الحضارة الأوربية نجد أن الأصول والمناهج التي اعتمدت عليها إسلامية المنشأ .
         فالمنهج التجريبي الذي يعتمد على التجربة والملاحظة والفرضية هو في الحقيقة منهج إسلامي أخذه العلماء الأوربيون من الحضارة الإسلامية .
وأيضا في العلوم الطبية نجد أن العلماء المسلمين أسهموا إسهامات كبيرة في هذا المجال فالبيروني هو مكتشف الدورة  الدموية الصغرى والفارابي هو أول عالم في التاريخ  تكلم على تركيب العين بصيغة باهرة .
وابن سيناء الذي يعتبر أستاذا للحضارة الأوروبية فمؤلفاته وخاصة كتابه القانون ظلّ يدرس في الجامعات الأوروبية ثلاثة قرون.
وفي علم الفيزياء نجد أن علم البصريات الذي وضع أسسه ابن الهيثم  إسهاما كبيرا في تاريخ العلوم ......حتى أن هناك من العلماء الإسلاميين   من تكلم عن الجاذبية وأن الأرض تجذب الأجسام إليها جذبا .
أما في علم الفلك  فإسهامات العلم الإسلامي فيها كثيرة فأثبت مثلا  كروية الأرض ودوران الأرض في حين كانت أوربا تزعم أن الأرض محمولة على قرن ثور... فابن حزم الأندلسي له كتاب يثبت فيه كروية الأرض بالدليل العلمي والشرعي في القرن الرابع هجري أي قبل انطلاق النهضة الأوربية.
         إذن فنزول الرسالة الخاتمة وحركة الإصلاح الديني في أوربا هما الحدثان الأساسيان اللذان أديا إلى انطلاق الحضارة والنهضة الأوربية التي تعتبر نقلة نوعية في تاريخ الإنسانية.
 فالدين الإسلامي هو الذي لفت انتباه الفكر الإنساني إلى القوانين والعلل التي تحكم حركة الكون ثم انتقلت هذه الأفكار عبر الترجمة و الحركة الرشدية اللاتينية والمدرسة الإنسانية إلى المجتمع والعقل الأوربي فولدت الحضارة الحديثة  .
        لكن... ما علاقة هذا كله بالعلمانية ؟
         لقد تعمدنا  الكلام على مرتكزات الحضارة الأوروبية لنبين أن العلمانية هي نتيجة من نتائج الحضارة الأوروبية والتي حدثت بعد قرنين أو ثلاث من انطلاقها وليست سببا من أسباب انطلاقة هذه الحضارة كما يزعم كثير من المفكرين والمحللين في العالم.
         فالعلمانية كفلسفة للوجود والحياة لم تظهر إلا في القرن 18م وهو ما يسمى بعصر التنوير الأوربي أين قام مجموعة من المفكرين في أوربا بدراسة  نقدية للدين المسيحي ومدى علاقته بالعلم والحضارة  ووصلوا إلى  أن الدين المسيحي (المحرف في الحقيقة) مصادم ومعرقل للحضارة في أوربا يجب إبعاده وإخراجه من عقلية الإنسان الأوربي وإلا فان تلك الحضارة التي انطلقت في المجتمع الأوربي ستنهار.
         فقام هؤلاء المفكرون بطرح رؤية وتصور جديد للعالم وللوجود بديلا عن التصور المسيحي الديني وهكذا نشأت العلمانية كبديل للدين المسيحي وبالتالي فنحن نقول أن العلمانية هي بمثابة دين إنساني طرحه الفكر الأوربي في عصر التنوير ليكون بديلا عن الدين المسيحي في أوربا .
قد يقول قائل كيف تكون العلمانية دين وهي تدعوا إلى فصل الدين عن الدولة وعن الحياة ...؟.
         إن الدين في الحقيقة عبارة عن عقيدة تعطي لنا تصورا عن الخالق وعن الكون وعن الإنسان ودوره في هذا الكون وشرعية متمثلة في مجموعة من التكاليف والواجبات تنبثق عن هذه العقيدة وتتماش معها.
          وإذا نظرنا إلى العلمانية فإننا نجدها تقدم لنا تصورا عن الحياة وعن الكون وعن الانسان ودوره في الكون (وهو تصور خاطئ وخاصة تصور العلمانية عن الخالق فهي تنكر وجوده وإن لم تنكر وجوده فهي تنكر تأثيره في الحياة ).
         وبالتالي فالعلمانية  دين وضعي وضعه الانسان في القرنيين الـ 18 والـ 19 ليكون بديلا عن الدين المسيحي (المحرف كما نعتقد نحن المسلمين)الذي أصبح عبأ على العقل و الإنسان الأوربي. ففي بدايات النهضة العلمية في أوربا ابتداء من القرن 15-16 وصلت البحوث العلمية إلى مجموعة من الحقائق خالفت ما قاله رجال الدين المسيحي ،فأدى هذا إلى حدوث رعشة عقائدية كبيرة في أوربا انتهت بظهور العلمانية واقتناع الإنسان الأوربي بها.
         فتلك الحقائق العلمية التي وصل إليها العلم  وخطأت ما كان يقوله رجال الدين المسيحي جعلت مجموعة من أدباء ومفكري عصر التنوير في أوربا يعتبرون أن الدين أصبح عائقا أمام التطور العلمي ،واعتبروا أن السبيل الأوحد لتطور الإنسانية وتقدمها هو العلم والعقل ومالا يقبله العلم والعقل فهو خرافة يجب محاربتها ويعتبر فولتير رائد هذه الحركة في أوربا في القرن 18 م.
         إن إثبات خطأ الحقائق التي قال  بها رجال الدين لا يعتبر حجة لهؤلاء المفكرين ليتملصوا من الدين ويزعموا أنه عائق للتقدم ورجعية ويجحدون فضله  الكبير فقد قاد الدين البشرية لآلاف من السنين وهو الذي أوصلها إلى هذه الحضارة والتقدم ....كان لزاما  على هؤلاء المفكرين أن ينقوا الدين المسيحي من هذه المغالطات ويطهروه منها لا أن يحاربوه وينكروه أو كان لزاما عليهم أن يبحثوا عن الدين الحقيقي الذي لا شائبة تشوبه وهو الإسلام لكن هذه الحركة تعبر عن مدى افتتان الانسان بالعلم وغروره بنفسه فظن أنه أصبح إلاها كما قال أحد الفلاسفة كتابا سماه موت الإله.
هذه هي العلمانية كما ظهرت في المجتمعات الأوربية نتيجة للتطور والتقدم العلمي الذي حدث في أوربا فسبب هذا  حالة من الغرور والافتتان لدى الانسان الأوربي فكفر بربه و أمن بالعلم و العقل كبديل عن الدين.
         هل أشار القرءان الكريم إلى هذه الردة والغرور الذي أصاب الانسان بعد وصوله إلى حالة متقدمة من التطور العلمي الذي حدث في أوربا .
نحن نقول أن القرءان الكريم أشار الى هذه الحالة في بدايات نزوله على محمد  r وسماها بالطغيان الذي هو تجاوز الحد في الظلم.
يقول تعالى ((اقرأ باسم ربك الذي خلق ،خلق الانسان من علق ،اقرأ وربك الأكرم ،الذي علم بالقلم ،علم الانسان ما لم يعلم ،كلا إن الانسان ليطغى أن رآه استغنى ........))
         إن هذه الآيات هي أول ما نزل على النبي r من القرءان الكريم وأن تبتدئ رسالة سماوية خاتمة لهداية البشرية ((وهدى للناس)) بهذه الآيات التي تأمر النبي r  بالقراءة وهو أمر للبشرية جمعاء وتذكر هذا الانسان بنعمة العلم التي أعطاها له ربه جل وعلا وعلمه  بعد أن كان لا يعلم شيئا في هذه الحياة بواسطة النبوءات التي لم تنقطع في تاريخ البشرية من آدم u إلىمحمد r  لهداية الانسان .فأن يبدأ نزول القرآن الكريم بهذه الآيات لهي إشارة كبيرة على أن هناك تغير جذري في الحياة الإنسانية وهو طريق العلم والمعرفة التي وصل بها الانسان إلى إحداث ثورة في منهج وطريقة الحياة نفسها .بالعلم غزى الانسان الفضاء وبالعلم دخل أغوار الأرض.......الخ
ثم تأتي بعد الآيات ((كلا إن الانسان ليطغى ،أن رآه استغنى)) أي حقا إن الانسان ليطغى أي يتجاوز الحد في الظلم والطغيان بسبب أنه قد رأى نفسه استغنى أي أصبح غنيا عن الدين و عن الإله فظن أنه أصبح غير محتاج له.
         جلّ المفسرين يفسرون هاتين الآيتين بطغيان الانسان بسبب ماله أي غناه المادي يجعله يظن نفسه غنيا ولا يحتاج لأي معين, وهذا خروج عن سياق السورة الكريمة التي ابتدأت بأمر الانسان بالقراءة وتذكيره بنعمة التعليم التي علمه إياها الله جل وعلا .وكأن هذه الآيات إشارة إلى طغيان الانسان بسبب العلم ووصوله إلى مرحلة متطورة من التقدم العلمي والتقني جعلته يطغى ويظلم نفسه (لأن الكفر ظلم)ظنا منه انه قد استغنى عن الله وعن الدين ولم يعد بحاجة لهداية السماء لأنه أصبح عالما  أي ((كلا إن الانسان ليطغى)) أي حقا إن الانسان ليتجاوز الحد في الظلم فيظلم نفسه و يظلم غيره .-أن رآه استغنى- أي رأى نفسه قد أصبح في غنى عن هداية السماء التي علمته ما لم يكن يعلم. وهذه إشارة معجزة في كتاب الله جلّ وعلا تنبأت بما سيحدث للإنسانية بعد أن تتقدم وتتطور علميا وتقنيا
         وأن يظن الإنسان نفسه قد استغنى عن الله وعن الهداية السماوية فهذه هي العلمانية التي ظهرت بعد أن خطى الإنسان خطوة نحو التقدم العلمي والتقني إبتداءا من القرن 16 م فظن أنه لم يعد في حاجة إلى الدين وظنّ أن العلم هو السبيل الأوحد لتطوير الحياة الإنسانية .
         هذه هي العلمانية كما ظهرت في المجتمعات الأوربية والسؤال هنا هل تستطيع الدول العربية والإسلامية أن تنتهج سبيل العلمانية وهل هي صالحة للعيش والنمو في هذه المجتمعات الإسلامية؟
         كتب أستاذنا مالك بن نبي في ستينات القرن الماضي كتابا سماه "مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي" وهو واحد من سلسلته "مشكلات الحضارة" في أحدى فصول هذا الكتاب تكلم مالك بن نبي عن قضية الأفكار المطبوعة والأفكار الموضوعة .
         فالأفكار المطبوعة هي الأفكار التي طبعت وخزنت في ذاكرة الأمة العربية والإسلامية منذ بداية نهضتها الأولى على يدّ محمدr  الذي أحدث ثورة فكرية في  المجتمعات العربية آنذاك وأدى إلى إعادة صياغة عقلية هذه الأمة بمجموعة من الأفكار والمبادئ الإسلامية التي مازالت حتى الآن راسخة في الذاكرة الجماعية للشعوب العربية وحتى و إن لم تدري بها هذه الشعوب والأفكار الموضوعة هي الأفكار التي ينتجها ويطرحها المفكرون والفلاسفة على مرّ العصور فان لم تكن هذه الأفكار الموضوعة منسجمة ومتوافقة مع الأفكار المطبوعة في ذاكرة الأمة فلن تحدث فيها حراكا اجتماعيا ولن يتقبلها هذا المجتمع وهذا حدث مع الشعوب الأوربية التي قلبت مفهوم العلمانية وتفاعلت معه منذ أن طرحه بعض المفكرين في القرن 18 وهذا لأن مفهوم العلمانية وفصل الدين عن الحياة السياسية موجود في ذاكرة الأمة الأوربية المسيحية ومقولة السيد المسيح عليه السلام (أعطي ما لقيصر  لقيصر وما لله  لله) أكبر دليل على وجود فكرة العلمانية في ذاكرة الشعوب المسيحية...أيضا فالمسيحية هي دين يركز على الأخلاق والتسامح والحب ويبتعد على كل ما هو سياسي سلطوي وهذه ميزة من ميزات الديانة المسيحية التي في نزلت في  وقت معين وفي مكان معين ولشعب معين على خلاف الإسلام الذي نزل للناس كافة ولكل زمان ومكان ((وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا)) .لهذا كان الإسلام شاملا لجميع جوانب الحياة سواءا السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية الفردية منها والجماعية فكانت شريعة الإسلام مغطية لجميع حياة الانسان من أموره الفردية والخاصة إلى الأمور السياسية المتعلقة بإقامة الدولة وكيفية تسييرها على عكس الشريعة المسيحية التي لم تعالج إلاّ المسائل الخاصة والفردية وتركت الأمور السياسية و الاقتصادية للناس وهذا كما قلنا  ليس لأن الديانات السماوية مختلفة أو متناقضة فيما بينها و إنما  لأن المسيحية دين نزل في مرحلة معينة ولزمن معين أما الإسلام فهو شامل ناسخ لكل الشرائع التي نزلت قبله من يهودية ومسيحية هذا إضافة إلى أن الدين المسيحي أو اليهودي قد دخلت إليه يدّ التحريف على عكس الإسلام الذي سلم من كلّ تحريف أو تدليس فيقول تعالى (( إنا نحن نزّلنا الذكر وإنا له لحافظون )) .
إذن فالعلمانية لا يمكن لها أن تكون منهج للحياة في الشعوب العربية والإسلامية لسببين اثنين:
         السبب الأول هو أن هذه العلمانية غير متوافقة مع البنية الاجتماعية والنفسية للشعوب العربية والإسلامية، فلو اقتنعت الشعوب الإسلامية بفكرة العلمانية لأمكننا أن نتخذ منها منهجا للحياة ومرجعية للدول العربية أما وقد رفضت هذه الشعوب العلمانية طيلة قرنين من الزمان ومروّجوها يحاولون أن يقنعوا بها المواطن البسيط فلم يستطيعوا فلو سألت أي مواطن عربي مسلم عن العلمانية لاستغفر في الحين وابتعد عنك.
         أما في الشعوب الأوربية فقد حدثت قناعة اجتماعية بمفهوم ومنهج العلمانية لدى الشعوب الأوربية التي عانت من رجال الدين المسيحيين والكنيسة كل أنواع القهر والتعذيب  .
         ونفس الشيء بالنسبة للشعب الأمريكي أو الشعب الهندي، فهذه الشعوب لها بنية اجتماعية و مرجعية دينية مختلفة عن الشعوب -الإسلامية- فمعظم أديان هذه الشعوب هي في الحقيقة تقتصر على الجوانب النفسية والفردية ولا تتدخل من قريب ولا من بعيد في الأمور السياسية والاجتماعية على عكس الدين الإسلامي الذي هو منظومة متكاملة للحياة تبدأ من علاقة المسلم بربه وبنفسه وبأسرته وجيرانه وتصل حتى إلى علاقة الشعب المسلم بالشعوب الأخرى بل الإسلام حدد حتى علاقة المسلم بالحيوان والجماد والنبات .
فلا يمكن بين ليلة وضحاها أن تنمحي هذه المرجعية المتكاملة وتنغرس مكانها  العلمانية القاصرة على الإجابة على الأسئلة الفلسفية الكبرى التي تراود الإنسان منذ وعيه بنفسه وبمجتمعه ،فالعلمانية لا تعطينا جوابا محددا عن غاية الوجود الإنساني مثلا أو عن هدف الحياة أو عن أصل الحياة أو عن مصير هذه الشعوب التي تأتي إلى الحياة ثم تموت بعد مدة زمنية فالعلمانية تصمت تجاه هذه الأسئلة ،أما الإسلام فيعطينا إجابات محددة ومنسجمة مع الفطرة حيال و في نفس الوقت مقنعة للعقل.
         فالعلمانية إذن لا يمكن لها أن تعيش بين الشعوب الإسلامية ولا يمكن لها أن تحدث دينامكية اجتماعية داخل الدول العربية والإسلامية على عكس الإسلام الذي ما إن اقتنع به الإنسان حتى يشحن بطاقة جبارة لا تجعله يحدث تغييرا فرديا في حياته فحسب وإنما تجعله يحدث تغييرا اجتماعيا أيضا،فيتحرك هذا المجتمع المسلم نحو الحضارة كما انطلق أول مرة فبني حضارة جبارة في مدة لا تزيد عن قرنين من الزمن.
         قد يقول قائل: إن الإسلام موجود الآن بين الشعوب العربية والإسلامية فلم تحدث هذه الإنطلاقة الحضارية ؟....نقول أن الإسلام قد شابته شوائب عديدة ولابدا ّمن الرجوع إلى عقيدة التوحيد الخالص التي جاء بها محمد r وربى عليها صحابته فانطلقوا بها حتى أوصلوها إلى جميع سكان العالم في مدة ربما لا تتعدى 50سنة. 
         أما السبب الثاني لعدم نجاح العلمانية كمرجعية للحياة داخل الشعوب العربية والإسلامية هو عدم نجاحها لا نظريا ولا واقعيا منذ وفودها إلى هذه المنطقة .
         أما نظريا فإن معظم المفكرين الذين كانوا مقتنعين بالعلمانية وكانوا يدعون لوضعها كمنهج للحياة للنهوض بالشعوب العربية معظمهم قد تراجع عن هذه الأفكار وتبنى أفكار إسلامية فيما بعد مثلا فطه حسين الذي بدأ علمانيا وحاول في بداية كتاباته نقد الدين الإسلامي من أصوله بواسطة إسقاطه لفكرة الشعر الجاهلي و هذا محاكاة للحركة التنويرية الأوربية التي عملت على توجيه انتقادات كبيرة للدين المسيحي حتى جعلت الشعوب الأوربية تبتعد عنه. أما حركة التنوير العربية في البدايات القرن العشرين لم تنجح في الوصول إلى أي ثغرة في الدين الإسلامي فانقلبوا على أعقابهم وعادوا يدعون إلى الرجوع إلى الدين الإسلامي فكتب طه حسين في أواخر كتاباته كتابات إسلامية جيدة كـ -على هامش السيرة أو الفتنة الكبرى .
         كذلك نفس الشيء بالنسبة لخالد محمد خالد الذي بدأ علمانيا في كتابه الطريق منها والذي ردّ عليه محمد الغزالي ب-ـمن هنا نبدأ- ثمّ عاد خالد محمد خالد وأصبح داعية ومفكر لإسلامي من الطراز الأول وكذلك عبد الوهاب المسيري الذي بدأ شيوعيا علمانيا ثمّ عاد مفكر إسلامي ووجه انتقادات قوية للعلمانية كمنهج للحياة وللمذاهب الرأسمالية كوسيلة للتقدم والنهوض الحضاري .
         وكتاب آخرون عدة بدؤوا علمانيين ثم ّلما اطلعوا على الدين الإسلامي من مصادره الأصلية عادوا عن أفكارهم وأصبحوا يدعون إلى الفكرة الإسلامية .
         وأما واقعيا فإن التجارب العلمانية و حركة العلمية لم تنجح في الدولة العربية الإسلامية . فتركيا التي انتهجت العلمانية كمرجعية للدولة سنة 1924 م بواسطة مصطفى كمال أتاتورك لم تنجح فلأن حزب العدالة والتنمية هو الذي يسيطر على مخالب الحكم في تركيا وهو حزب ذو مرجعية إسلامية. فأصبح الشعب التركي يضيق ذرعا من العلمانية التي أصبحت عقبة أما هذا الشعب للعودة إلى دينه والقيام بشعائره فلو تركت الحرية الحقيقية للشعب التركي الآن لعاد إلى الإسلام.
         وليست التجربة التونسية ببعيدة عن مثيلتها التركية فقد نجحت الحركة العلمانية بقيادة لحبيب بورقيبة إبعاد جزء كبير من الشعب التونسي الشقيق عن الأصول الأساسية للإسلام ولكنها لم تنجح في إحداث نهضة .أو انطلاقة حضارية لا في تونس ولا في تركيا من قبل .
         في حين دولة مثل ماليزيا أحدثت انطلاقة وقفزة حضارية ابتدءا من ثمانينات القرن الماضي حتى أصبحت دولة مساهمة في التقنية العالمية بدرجة وبنسبة جيدة هذا مع أنها لم تعلمن نظامها السياسي وإنما أبقت الإسلام كمرجعية للشعب الماليزي .
         لكن هناك من يقول أن الدين سيحدث لنا اختلافا وتفرقا داخل الدول العربية بين سلفي ووهابي أو صوفي أو إخواني وكيف سيعيش غير المسلمين داخل هذه الدولة وكيف سيكون موقفها من العلمانيين والأحزاب العلمانية ،وأنه لحل هذا النزاع لماذا لا ننتهج العلمانية ونحيد الدين عن الدولة والسياسة ونحل المشكلة كما فعلت الدولة الأوربية من قبل ويحتجون علينا بتجربة طالبان في أفغانستان أو الدول العربية الأخرى التي تقول أنها تنتهج الإسلام كمرجعية لتسيير الدولة.
         نحن نقول أن ما ندعو إليه هو دولة إسلامية ديمقراطية حقيقية منفتحة على شعوبها وعلى الشعوب الأخرى بمختلف نحلها ومللها .وهذه الدولة تتخذ من الإسلام كمرجعية لتسيير هذه الدولة بكامل جوانبها الاجتماعية والاقتصادية وهذا الطريق لا مناص منه   أي ليس لنا طريق أو حلّ أخر لأنه كما قلنا أن العلمانية لم ولن تصلح في الدول العربية والإسلامية . وبالتالي فليس لنا إلاّ الرجوع إلى الإسلام الحقيقي الذي جاء به محمد r ونحاول أن نبحث عن القواسم المشتركة بين الحركات الإسلامية ونصنع مرجعية إسلامية متفق عليها وإلاّ فإننا سنبقى نتخبط في مستنقع التخلف والتبعية حتى الموت والاندثار.
         والديمقراطية هو التي ستمكننا من حلّ هذه الخلافات والنزاعات والنهوض بهذه الأمة وإخراجها من دائرة المفعول به إلى دائرة الفعل والفاعل.
         فالنظام السياسي الإسلامي الذي نعود إليه هو في الحقيقة يحوى كل مميزات النظام العلمانية وفي نفس الوقت يقضي على عيوب العلمانية بإعطاء غاية وهدف للحياة الإنسانية ولا يترك الإنسان غارقا في عذابه النفسي.
((إن هذا القرءان يهدي للتي هي أقوم...........)) 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق